سعدي يوسف في مجموعته الأخيرة "قصائد الحديقة العامة"

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
07/02/2009 06:00 AM
GMT



يمثل الشاعر العراقي سعدي يوسف تجربة متميزة وشديدة الخصوصية في حركة الحداثة الشعرية العربية سواء من حيث اجتراحه لقصيدة خافتة الإيقاع وقائمة على رصد الحالات والمشاهد والتفاصيل المكانية والنفسية أو من حيث نتاجه الشعري الذي لم تخف وتيرته مع الزمن والذي لا يكاد ينافسه في الغزارة أحد من الشعراء العرب، باستثناء نزار قباني في حدود ما أعلم. وإذا كان معظم الشعراء يتوقفون عن الكتابة أو تقل وتيرة إصداراتهم في سنوات العمر المتأخرة، بفعل نفاد التجربة أو تكلس اللغة أو تراجع وظائف الجسد، فإن هذا التوصيف لا ينطبق بأي حال على سعدي يوسف الذي تتلاحق مجموعاته الجديدة عاماً بعد عام رغم أنه قد تجاوز السبعين بسنوات عدة.
ومن يتابع أعمال صاحب »الأخضر بن يوسف ومشاغله« فلا بد أن يلفته أمران اثنان: أولهما أن الشاعر قادر على كتابة العديد من القصائد في اليوم الواحد كما يتضح من التواريخ المثبتة تحت هذه القصائد، وثانيهما أنه قادر أن يكتب الشعر في كافة الأماكن الموزعة بين الوطن والمنافي الكثيرة، كما بين المدن والأرياف والفنادق والمطارات والحانات والمقاهي. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن شعراء آخرين لا تتيسر لهم مثل هذه النعمة ولا يستيطعون استحضار شياطينهم الشعرية إلا إلى مكان ثابت بعينه لأمكننا الوقوف على بعض أسباب هذا الدفق الشعري المتجدد لدى سعدي يوسف.
ثمة بالطبع من لا يرى لهذه الغزارة ما يبررها ويرى في تجربة سعدي، وبخاصة في العقدين الأخيرين، الكثير من التكرار والإفاضة والدوران حول الموضوعات نفسها، كما حدث أيضاً لنزار قباني في سنواته الأخيرة. ومن يراجع أعمال الشاعر المتتالية لا بد وأن يجد شيئاً من الصحة في بعض هذه الملاحظات سواء من حيث الموضوعات التي تكرر نفسها بشكل جلي، بحيث تتمحور الكثير من القصائد حول هذا الفندق أو ذلك المقهى أو تلك الحانة، أو من حيث بناء القصيدة الذي يعتمد المفاتيح ذاتها والأسئلة إياها ونظام التنقيط نفسه، بحيث يظن القارئ مراراً أنه قد سبق له أن قرأ القصيدة ذاتها في مواضع أخرى من دواوين الشاعر. على أن من الإنصاف أيضاً أن نرد الأمر إلى شيء آخر يتعلق ببصمة سعدي الشخصية وبقدرته على امتلاك لغته وأسلوبه الخاصين واللذين باتا يسمان تجربته المديدة منذ أكثر من نصف قرن. كما أن سعدي هو من أكثر الشعراء ترحالاً وقلقاً وتنقلاً بين العواصم والمنافي، الأمر الذي يجعل من شعره مدونة حقيقية للأماكن والأسفار والمتاهات الخارجية والداخلية.
قد تكون مجموعة سعدي الأخيرة »قصائد الحديقة العامة«، الصادرة عن دار الجمل في ألمانيا، قادرة على اختزال الكثير من الأسئلة التي ما انفك يطرحها قراء سعدي يوسف على الشاعر وعلى أنفسهم. ذلك أن القارئ يشعر وهو يتفحص قصائد المجموعة أن الأماكن والحالات والموضوعات التي تتصدى لها المجموعة ليست جديدة عليه بل سبق له أن تعرف إلى أشباهها ونظائرها في مجموعات كثيرة سابقة. ومع ذلك فإن الأمر، بالنسبة لي على الأقل، لم يكن سلبياً بأي وجه ولم يكن استمتاعي بقراءة العمل الجديد أقل منه في أي عمل سابق. ذلك أن ما يحمي الشاعر من تكرار نفسه واستنفاد تجربته هو تلك القدرة الفائقة على الالتحام بمواضيعه وعوالمه المشهدية والنفسية بحيث تحافظ قصيدته دائماً على صدقها وشفافيتها وآليتها الداخلية وقدرتها على الإقناع. ولولا ذلك الالتحام لبدت القصيدة مفتعلة ومتعسفة وباردة الملامح، في حين أن قدراً وافراً من النضارة المائية والانسياب التلقائي ما زال يحكم هذه التجربة ويمنعها م التخثر.
شعرية موزعة
أكثر ما يميز »قصائد الحديقة العامة« هو تلك الرشاقة التي تسم بناء القصيدة كما تسم أسلوبها ونسيجها التعبيري، إضافة بالطبع إلى قدرة الشعر على الإيحاء وعلى دفع القارئ إلى مشاطرة الشاعر أحاسيسه ورؤاه ومناخاته المتبدلة باستمرار. كما أن الشعرية هنا ليست شعرية جمالية أو تطريبية أو كرنفالية بل هي شعرية ملتبسة وموزعة بين اللغة الظاهرة واللغة المستترة بحيث تبدو سطور القصيدة المكتوبة أشبه بالجزء المرئي من جبل الجليد في حين أن ظلال المعنى وأصداءه مرهونان دائماً بقدرة القارئ على التفاعل مع النص المقروء وإعادة تركيبه أو اكتشافه. وإذا كانت قصيدة من مثل »منزه الأنهار الثلاثة« هي، رغم جماليتها المفعمة بالضوء، واحدة من القصائد التي يتكرر موضوعها وبنائيتها في تجربة الشاعر فإن سعدي قادر دائماً على ولوج موضوعات خاصة وصعبة وتطويعها لمقتضيات الشعر وأسراره كما في قصيدة »مخطوط« التي تتصدى لموضوعة غير شعرية في الأصل ولكنها تحولها إلى سؤال كبير حول العلاقة بين الكاتب والكتابة وبين الإنسان واللغة والزمن: »بين يديّ المخطوط/ المخطوط يقلِّب وجهي في الصفحات البالية/ الصفحات الجلد/ الصفحات الصفر/ الصفحات السود.../ المخطوط البالي يتفتت بين يديّ/ ولكني أتفتت أيضاً بين يديه: /الصفحات البالية المسمومة تسحبني نحو البئر/ تطوِّح بي في البئر/ البئر المطوية/ إلا من لفح هواء من زمن مسدود«.
ثمة في المجموعة قصائد عديدة حول الطبيعة والفصول والبشر والطيور والأماكن الموزعة بين القلاع والأبنية والشوارع والأحياء والبحيرات بما يجعل من تجربة سعدي يوسف واحدة من أكثر التجارب الشعرية انهماماً بالجغرافيا والتنوع المشهدي وتأريخ اللحظة. إنها تجربة الاحتفاء بالبصر على وجه الخصوص وباقتناص كل ما توفره العين لصاحبها من متعة التجول بين المرئيات. ومع ذلك فإن هذه المتعة ليست خالصة تماماً لأنها منغصة على الدوام بالأسئلة الصعبة وبفكرة الزوال من جهة وبفقدان المكان الأصلي والحنين الدائم للاتحاد به أو العودة إليه من جهة أخرى. وهنا تكمن أيضاً واحدة من المفارقات الكثيرة التي يحملها شعر سعدي يوسف بين ثناياه. فنحن نشعر أحياناً بأن الشاعر ليس مقيداً بفكرة الوطن أو بنوستالجيا الالتحام بمسقط الرأس بل هو قادر على تحويل كل مكان يسكنه إلى وطن جديد، كما لو أنه يرى إلى الكرة الأرضية بوصفها وطناً للشاعر وموطئاً للغته وروحه. وما قدرته على تحويل الأماكن كلها إلى مادة للكتابة الشعرية سوى تأكيد دائم على تفاعله مع هذه الأماكن ومحاورتها والركون إليها. لكن الكثير من قصائد المجموعة تشير إلى خلاف ذلك وتعكس غربة الشاعر ومعاناته الثقيلة ازاء وطنه المفقود سواء بسبب جور الحكام أو بسبب جور الاحتلال الخارجي.
الغربة
في قصيدة »الشمس التي لا تأتي« ما ينضح بهذه الغربة وما يذكر أيضاً بشمس بدر شاكر السياب، التي هي في العراق أجمل منها في أي مكان آخر، حيث الغربة نفسها والصقيع إياه: »في هذا الأحد المقرور اشتقت إلى بلدي/ أمضيت صباحي في الساحة والمقهى/ غمغمت على ضفة النهر الجبلي صلاة »متأخرة«/ لكني أرتعش/ البرد تغلغل كالإبر الثلجية في الدم.../ في هذا الأحد الجهم اشتقت إلى بلدي/ لكني لم أدرك إلا الساعة/ حين مررت بمقبرة القرية/ أني المسكين بلا بلد«. وفي قصيدة »مطعم شبه أميركي« يتكرر الصقيع ذاته والإحساس إياه بفظاعة المنفى ولكن على لسان المرأة التي تشاطر الشاعر جلسته ثم ما تلبث تحت تأثير النبيذ أن تقع فريسة الشعور بالغربة والوحشة واللامعنى فتبدأ بتحديد ملامح الغائب التي تتوزع بين العائلة وشاي صباح العيد والفاكهة وطعم الماء والمطر المؤجل والشمس القاتلة والحشرات والثلوج على القمم والسمك الفضي في مجاري الأنهار، حيث الأسلاف ينامون طويلاً، وفق تعبير الشاعر، وحيث لا تبعث لندن وشوارعها الفارهة إلا على الاختناق. وكمن يرد على سلفه أبي تمام في بيته الشهير »وطول مقام المرء في الحي مخلق/ لديباجتيه فاغترب تتجدد«، أو كمن يرد على نفسه بالذات وهو يتنكب الأسفار والمغتربات بحثاً عن لهب جديد للكتابة، يعبر سعدي يوسف في قصيدته »مقام المرء« عن ضيقه بالعاصمة البريطانية الباردة بما يشبه أيضاً صرخة السباب المماثلة قبل خمسة وأربعين عاماً: »أأصرخ في شوارع لندن الصماء هاتوا لي أحبائي« فيهتف بحرقة لاذعة »أأنت المقيم هنا؟/ لا سماء ليخفق فيها جناحاك/ تسمع؟/ لا شيء/ لا هفة من حمامة دغل/ ولا رفة من غصون/ كأن بني آدم ابتلعوا قفة من حبوب وناموا إلى أبد الآبدين/ وما كان ساحة قريتك ارتد نحو زمان قصي/ حين لم تك ثمة من قرية/ يا مقيماً هنا/ لا سماء ليخفق فيها جناحاك".
لا بد في الختام من الإشارة إلى أن قصيدة سعدي يوسف رغم إلحاحها على الإيقاع التفعيلي تظل تسعى إلى تخففها من الإنشاد التطريبي والأوزان الفاقعة وإلى اقترابها من الإيقاع الخافت لقصيدة النثر دون أن تغادر توترها الداخلي أو تناغمها الموسيقي العفوي مع المعنى. وإذا كان الشاعر يستخدم العديد من الأوزان المألوفة والمتكررة التفعيلات في قصيدة الشعر الحر من مثل المتدارك والمتقارب والكامل والرمل فإنه لا يغفل الإفادة من البحور الثنائية التفعيلات كالخفيف والبسيط والطويل رغم قلة استخدامها في القصيدة الحديثة.
لكنه في كل الأحوال يجانب استخدام القافية، إلا في ما ندر، مما يتيح لنصوصه هامشاً وافراً من الحرية والنمو الداخلي والتدفق التلقائي. كما لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن إخلاص سعدي يوسف للكتابة هو الوجه الآخر لإخلاصه للحياة نفسها بحيث باتت الأولى مسوغ الثانية ومبررها الأهم وباتت الكتابة سلاح الشاعر الأمضى في مواجهة المنفى والعزلة كما في مواجهة الشيخوخة والموت. ليس غريباً بعد ذلك أن يتساءل الشاعر في إحدى القصائد "لمن أكتب الآن" وأن يجيب نفسه بنفسه: "أكتب كي لا أموت وحيداً".